كان فهد رجل لا تشوبه شائبة. أنيق في مظهره، ناجح في عمله، ومحب لعائلته التي كانت عالمه. زوجته ندى كانت ترى فيه الحلم الذي تحقق، وأطفاله كانوا يرونه بطلاً لا يُقهر. كان بيته الكبير في الحي الراقي يعج بالضحكات، وكان كل شيء يبدو مستقراً، وكأن السعادة قد اختارت أن تستقر هناك دون مغادرة.

لكن النجاح له أثمانه، وثمن فهد كان الضغط الذي تراكم على كتفيه دون أن يُظهره. ساعات العمل الطويلة، متطلبات وظيفته المرموقة، وتوقعات الجميع منه جعلته يشعر بأنه تحت طائلة حملٍ لا يمكن الهروب منه. كان يبحث، بلا وعي، عن نافذة صغيرة يلتقط فيها أنفاسه، نافذة لم يكن يعرف أنها ستفتح على هاوية عميقة.

في تلك الفترة، تعرف فهد على مجموعة جديدة من الأصدقاء. كانوا يتحدثون عن أوقاتهم في النوادي الليلية بعبارات خالية من الندم، مصحوبة بالضحكات التي تحمل إغراءً خفياً. “مجرد مكان للاسترخاء، لا شيء خطير،” قالوا له. في البداية، كان يرفض بصرامة، مؤكداً أن حياته العائلية تكفيه، لكن الإلحاح المستمر بدأ يضعفه. وفي إحدى الليالي، بعد يوم عمل طويل، قرر أن يجرب، تحت إلحاح رفاقه بحجة بأنها مجرد ليلة واحدة.

دخل فهد الملهى الليلي لأول مرة وكأنه يدخل عالماً آخر. أضواء تتراقص، موسيقى عالية وغناء صاخب، نساء بملابس فاضحة ومثيرة تبتسم له بمكر. شعر للحظة بأنه وجد ذلك “الفراغ” الذي كان يبحث عنه، المكان الذي لا يطلب منه أحد شيئاً.

في تلك الليلة، قدم له أحد زملائه مشروباً. ثم أتبع المشروب بسيجارة قائلاً: “لا تقلق، هذه ستساعدك على الاسترخاء أكثر.” لم يكن فهد يعلم أن ذلك المشروب كان مخلوطا بالمخدرات، ولم يكن يعلم أنها ستكون بداية انحداره نحو الظلام.

شيئاً فشيئاً، أصبحت تلك النوادي جزءاً من روتينه. لم تعد مجرد “استراحة” من الحياة، بل ملاذاً وهمياً يهرب إليه كلما اشتدت عليه الضغوط. ومع الوقت، تحول الأمر إلى عادة يومية، ثم إلى إدمان كامل على المخدرات التي كانت تمنحه شعوراً مؤقتاً بالراحة، لكنها تسلبه كل شيء آخر.

بدأت حياة فهد تنهار بصمت. غاب عن المنزل أكثر مما كان حاضراً، وتدهور أداؤه في العمل. زوجته، ندى، التي كانت دائماً متفهمة، بدأت تشعر بأن هناك شيئاً خطيراً يحدث. حاولت مواجهته، لكنه كان يهرب من أسئلتها، متذرعاً بالعمل أو التعب.

خسر فهد وظيفته بعد سلسلة من الأخطاء التي لم يكن يرتكبها يوماً، وبدأ يغرق في الديون بعد أن استنفد كل مدخراته لتلبية حاجته إلى المخدرات. البيت الذي كان يوماً رمز الأمان والاستقرار بيع لتسديد الديون المتراكمة، واضطرت أسرته إلى الانتقال بين بيوت الأقارب، في محاولات يائسة للحفاظ على ما تبقى من حياة.

لكن الأسوأ لم يكن الفقر، بل تفكك الأسرة. أطفاله لم يعودوا يرونه بطلاً، وزوجته أصبحت ترى فيه غريباً لا يشبه الرجل الذي أحبته.

وسط هذا السقوط الحر، جاءت يد شقيقته هناء. كانت هناء تعلم أن أخاها بحاجة إلى المساعدة، لكنها كانت تعرف أيضاً أن إنقاذه لن يحدث إلا إذا واجه الحقيقة. وقفت أمامه ذات يوم وقالت: “فهد، هذا ليس أنت. أنت الرجل الذي كنت أراه نموذجاً للنجاح، الأب الذي يملأ البيت حباً. لكنك دمرت كل شيء. إما أن تواجه نفسك الآن، أو أن تخسر كل شيء للأبد.”

أثرت كلماتها فيه بعمق، لكنه كان متردداً. الإدمان كان قد جعل منه أسيراً، لكن رؤية الألم في عينيها أيقظت داخله ما تبقى من إنسانيته. وافق على دخول المصحة بعد صراع داخلي طويل.

في المصحة، واجه فهد نفسه لأول مرة. كانت الأيام الأولى أشبه بمعركة شرسة بينه وبين الإدمان. الأعراض الانسحابية كانت تعذبه، لكن الألم النفسي كان أعمق؛ إدراكه لما فعله بأسرته وبنفسه كان كالسيف الذي يخترق روحه. ومع ذلك، بدأ مع مرور الوقت يستعيد شيئاً من ذاته. تعلم كيف يواجه ضغوط الحياة دون الهروب منها، وكيف يبتعد عن رفاق السوء الذين كانوا السبب في سقوطه.

بعد أربعة أسابيع من العلاج، خرج فهد من المصحة رجلاً مختلفاً. لم يكن ذلك الرجل المثالي الذي بدأ القصة، لكنه كان أكثر وعياً، أكثر نضجاً، وأكثر تصميماً على إصلاح ما أفسده.

ذهب إلى ندى، ووقف أمامها بعينين تملؤهما الدموع، قائلاً: “أعلم أنني خذلتكِ، وأعلم أنني لا أستحق فرصة أخرى، لكنني سأقضي بقية حياتي في محاولة استعادة ثقتكِ وثقة أولادي.”

لم تكن عودته سهلة. بدأت بعمل بسيط، وكان يرسل كل ما يكسبه لدعم أسرته. بعد سنوات من الكفاح، تمكن من جمع شملهم تحت سقف واحد، في منزل صغير لكنه مليء بالحب والإصرار.

اليوم، يقف فهد أمام الآخرين ليحكي قصته. ليس كضحية، بل كناجٍ. يعلمهم أن السقوط قد يكون حتمياً أحياناً، لكن النهوض قرار شخصي.

العبرة:
الانزلاق نحو الهاوية قد يكون لحظة ضعف، لكن الخروج منها يحتاج إلى إرادة قوية ويدٍ تمتد لإنقاذنا. الإنسان قادر على البدء من جديد، مهما كانت خسائره، إذا امتلك الشجاعة لمواجهة نفسه والاعتراف بأخطائه.